فصل: تفسير الآيات (33- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (33- 40):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
الخطاب هنا لهؤلاء المشركين من أهل مكة، الذين قالوا فيما أنزل اللّه: هذا {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
فكفروا باللّه، وكذبوا رسوله.
والاستفهام إنكارى، ينكر اللّه سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف المنادي الضّال، الذي يقفونه من الرسول الكريم، ومن آيات اللّه التي بين يديه.. فماذا ينتظرون بعد هذا البيان المبين، وتلك الحجة الدامغة! {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}.
أي هل ينظرون في هذا الموقف الضالّ إلّا أن تأتيهم الملائكة، تشهد لهم أن محمدا رسول اللّه، وأن الكتاب الذي بين يديه هو كلمات اللّه؟ لقد طلبوا ذلك فعلا فيما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [6- 7: الحجر].. أم هل ينظرون أن يأتى أمر اللّه، وهو العذاب الذي أخذ به الظالمين قبلهم، فيهلكهم بعذاب من عنده كما أهلك الأولين؟ وقد طلبوا هذا فعلا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم في قوله تعالى: {وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [32: الأنفال] وفى قوله تعالى: {وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
إشارة إلى أن هؤلاء الذين أهلكهم اللّه من القرون السابقة، إنما أخذهم اللّه بذنوبهم، وما ظلمهم اللّه بهذا العذاب، بل هم أوجبوه على أنفسهم، بكفرهم وضلالهم.
فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم، إذ عدلوا بها عن طريق الأمن والسلامة، ومالوا بها إلى طرق البلاء والهلاك.
قوله تعالى: {فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
هو بيان كاشف لما حلّ بهؤلاء الظالمين من بلاء، وأن هذا الذي نزل بهم هو من آثار ما عملوا من سوء، ومن معقبات مكرهم بآيات اللّه، واستهزائهم برسله.. وفى هذا تهديد للمشركين الذين يحادّون رسول اللّه، ويهزءون بآيات اللّه.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} هو عرض فاضح، لمقولة من تلك المقولات الآثمة، التي يرمى بها المشركون بين يدى شركهم، ليتخذوا منها حجة يحاجّون بها رسول اللّه، ويلزمونه التسليم بها، إذ يجيئون إليه بهذا المكر السيّء، حين يقولون: {لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وتلك كلمة حق أريد بها باطل.. فلو أنهم آمنوا بمشيئة اللّه، واعترفوا بسلطانه المطلق، القائم على كل شيء، لآمنوا باللّه، ولعبدوه، واتبعوا رسوله، الذي يكشف لهم الطريق إلى اللّه.. ولكنهم لا يؤمنون باللّه.. فكيف يؤمنون بأن له- سبحانه- مشيئة غالبة، وسلطانا قاهرا؟ وهل يتفق هذا القول الذي يقولونه مع اتخاذهم الأصنام آلهة يعبدونها من دون اللّه؟ إن ذلك مما لا يستقيم مع منطق القول الذي يقولونه.. ولكن هكذا يفعل الضلال بأهله.. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [41: المائدة]- وقوله تعالى: {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
هو وصل لهؤلاء المشركين بمن سبقهم من أهل الضلال، من القرون الغابرة.. إنهم ليسوا وحدهم هم الذين قالوا هذا القول.. فهم حلقة في تلك السلسلة الآثمة، التي تنتظم الظالمين، وتجمعهم في قرن واحد!- وفى قوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} هو قطع لتلك الحجة الكاذبة التي يحتجّ بها المشركون من كلّ أمة، ومن كل جيل.
وأنهم إذ تنكبوا الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال، وجعلوا القول بمشيئة اللّه دليلهم على هذه الطرق- فليتركوا وما هم عليه من شرك، وما هم فيه من ضلال، حتى يلقوا ما يلقى المشركون الضالون من عذاب اللّه.. فلقد أعذر اللّه إليهم، وقطع حجتهم، بما أرسل إليهم من رسل.. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
وليس على الرسل إلا البلاغ المبين.. وقد أدّى رسل اللّه رسالة اللّه، وبلغوها إلى أقوامهم بلاغا مبينا واضحا.. {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها}.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} هو بيان لهذا البلاغ المبين الذي بلّغه رسل اللّه إلى أقوامهم.. ففى كل أمة بعث اللّه سبحانه وتعالى رسولا يدعوهم إلى عبادة اللّه، وإلى اجتناب الطاغوت، وترك ما هم فيه من ضلال.. {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ}.
أي فمن هؤلاء الأقوام الذين جاءهم رسل اللّه، من هداه اللّه وشرح صدره للإيمان، فاهتدى إلى الحق، وآمن باللّه، ومنهم من حقت عليه الضلالة، أي وجب أن يكون من الضالين، إذ لم يرد اللّه سبحانه وتعالى أن يهديه، وأن يشرح صدره للإيمان.. وتلك هي مشيئة اللّه في خلقه، مشيئة غالبة قاهرة.. ولكن لا حجّة لأحد على اللّه فيها.
وعلى الإنسان أن يسعى إلى الخير جهده، وأن يقيم وجهه على هدى اللّه.
فإن اهتدى، حمد اللّه وشكر له، وإن ضلّ وغوى، فليبك نفسه، ويؤثّم موقفه، ويسأل اللّه العافية من هذا البلاء الذي هو فيه..!
وفى قوله تعالى: {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} دعوة إلى إيقاظ تلك العقول النائمة، لتنظر عبر القرون الماضية، ولترى ما في مصارع المكذبين برسل اللّه، من عبر وعظات.
قوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ}.
هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة له في مصابه في الضّالين المقيمين على ضلالهم من قومه.. ذلك أنه مهما حرص النبي على هداية هؤلاء الشاردين، فلن يبلغ به حرصه شيئا، فيما يريد لهم من هدى وإيمان.. إذ حقت عليهم الضلالة، وغلبت عليهم شقوتهم.. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}.
{وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} ينصرونهم من دون اللّه، الذي ابتلاهم بما هم فيه.
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} هكذا يلجّ أهل الضلال في ضلالهم، فيحلفون جهد أي مانهم، أي أقصى ما عندهم من أيمان قاطعة مؤكدة، على أن اللّه لا يبعث من يموت.. وذلك في مواجهة ما جاءهم الرسول به من ربه، عن الإيمان باللّه، وباليوم الآخر، فعجبوا أشدّ العجب، أن يبعث الموتى من قبورهم، بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب، ويصبحوا عظاما نخرة.. وفى هذا يقول اللّه تعالى عنهم: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [7- 8: سبأ] وفى قوله تعالى: {بَلى} تكذيب لهم.. أي أن اللّه يبعث الموتى.. كما يقول سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [7: التغابن]- وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا} هو توكيد لهذا التكذيب لحلفهم.
وأن هذا البعث واقع لا شك فيه، وقد جعله اللّه وعدا. أوجبه على نفسه، ولن يخلف اللّه وعده.. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} حكمة اللّه في هذا البعث، ولا ما للّه من قدرة لا يعجزها شيء.
قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ} هو كشف عن بعض الحكمة في البعث، الذي جعله اللّه وعدا عليه حقا.. ففى هذا البعث تتبين للناس مواقفهم من الحق، ويمتاز الخبيث من الطيب.. وهناك يستيقن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما يدّعون لأنفسهم ولآلهتهم من مدّعيات باطلة، وفيما يقولون عن البعث وإنكاره.. وفى هذا تهديد للكافرين، ووعيد لهم بما يلقون في هذا اليوم من فضيحة، وخزى، وهوان.
قوله تعالى: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو توكيد للبعث، الذي جعله اللّه وعدا عليه حقا.. وأن أمر البعث هيّن أمام قدرة اللّه سبحانه وتعالى، تلك القدرة التي يستجيب لسلطانها كل شيء.
فما هو إلا أن يصدر الأمر الإلهى لأى شيء حتى يصدع هذا الشيء بما يؤمر به.. {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

.تفسير الآيات (41- 50):

{وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات التي سبقتها ذكرت البعث وإمكانيته، وكشفت عن بعض الحكمة من وقوعه في قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ} وإذ كان هذا وجها من وجوه الموقف يوم القيامة، ناسب أن يذكر الوجه الآخر، وهو وجه الذين آمنوا باللّه، وصدّقوا بآياته.. وأكرم ما في هذا الوجه الكريم هم الذين هاجروا في اللّه من بعد ما مسّهم الضر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وذلك بما ساق إليهم المشركون من ألوان العسف والبلاء.. فهؤلاء سيوفيهم اللّه سبحانه أجرهم مرتين.. في الدنيا.. وفى الآخرة.
فهم في الدنيا سينصرون على عدوّهم، وسوف تمتلئ أيديهم بالخير، بما يمكّن اللّه لهم في الأرض.. أما في الآخرة، فلهم جنات النعيم، ورضوان من اللّه أكبر.. وذلك هو الفوز العظيم.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ} إشارة إلى أن الهجرة جهاد في سبيل اللّه، ولهذا ضمّن الفعل هاجر معنى الفعل جاهد، فعدّى بحرف الجر {فى}.
ويجوز أن يكون حرف الجر {فى} بمعنى الباء، التي تفيد السببية.. ويكون المعنى: والذين هاجروا بسبب اللّه، أي بسبب الإيمان باللّه.. وفى الحديث: «عذبت امرأة في هرة» أي بسبب هرة.
وقوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً} أي لننزلنهم منزلة حسنة في الدنيا.. يقال: باء يبوء: أي رجع.. وسمّى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يأوى إليه الإنسان بعد طوافه وسعيه في الحياة.
ولقد صدق اللّه وعده، فأيد المؤمنين بنصره، ومكّن لهم في الأرض، وأذلّ الكافرين والمشركين.. والمنافقين، وجاء نصر اللّه والفتح، ودخل الناس في دين اللّه أفواجا.
وهذا الوعد الذي وعده اللّه المؤمنين، وأنجزه لهم لم يكن لأشخاصهم فردا فردا، وإنما هو لهم كجسد واحد، ومجتمع واحد.. هكذا المؤمنون، فيما أصابهم، من بلاء، أو عافية، فهم جميعا فيه شركاء، شأن الجسد حين تنزل به علة، أو تلبسه عافية..!
قوله تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هو عطف بيان على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ}.
فهؤلاء هم الذين صبروا على أذى المشركين، واحتملوا في سبيل اللّه ما احتملوا من مفارقة الأهل والوطن.
مخلفين كل شيء وراءهم، فما كان لهم في هجرتهم من مال ومتاع.. بل هاجروا متوكلين على اللّه، معتصمين به، مستغنين بما عنده.
قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} هو ردّ مفحم للمشركين الذين أبوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وقالوا: {أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [24: القمر].. وقالوا ما حكاه القرآن عنهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا} [21: الفرقان].
فجاء قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}: ليرى المشركين أمرا واقعا، لا سبيل إلى إنكاره، أو الجدل فيه، وهو أن كلّ رسل اللّه الذين بعثوا في الأمم التي سبقتهم كانوا {رجالا} أوحى اللّه إليهم بما شاء أن يوحيه إليهم من آياته وكلماته.. فإذا لم يكن عند هؤلاء المشركين علم بهذا، فليسألوا أهل الذكر، أي أصحاب العلم، وهم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فإن من واجب من لا يعلم أمرا أن يسأل عنه أهل العلم، قبل أن يتعامل به، ويجادل فيه.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا رِجالًا} إشارة إلى أن رسل اللّه جميعا كانوا من الرجال، ولم يكن أحد منهم من النساء، وأنهم أوحى إليهم وهم رجال، قد بلغوا الرشد، وجاوزوا مرحلة الصبا والشباب، وأنه لم يكن أحد من رسل اللّه من عالم غير عالم البشر.
قوله تعالى: {بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} هو متعلق بقوله تعالى: {نُوحِي إِلَيْهِمْ}.
أي نوحى إلى هؤلاء الرجال الذين اخترناهم لرسالتنا {بالبينات} أي بالآيات البينات، وهى المعجزات المادية المحسوسة، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات عيسى. {والزبر} أي الكتب، والصحف.. كصحف إبراهيم، وصحف موسى، وكالتوراة والإنجيل.
وفى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} التفات إلى النبي الكريم، بهذا الخطاب الكريم من رب العالمين.. وأن اللّه سبحانه وتعالى قد نزّل إليه الذّكر أي القرآن الكريم، وسمّى ذكرا، لأن فيه من آيات اللّه ما يذكر الناس باللّه سبحانه وتعالى، ويلفت قلوبهم وعقولهم إليه.
كما أن فيه ذكرا باقيا للنبىّ الكريم وقومه، كما يقول سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}.
فهذا الحديث الطيب المتصل مع الزمن، المردّد على أفواه الأمم، من سيرة النبي الكريم، وسيرة أصحابه الكرام، والهداة المصلحين من أئمة المسلمين وعلمائهم- هذا الحديث، هو أثر من آثار هذا الكتاب الكريم، الذي أنزل على النبي الكريم.
وفى تعدية الفعل {أنزلنا} بحرف الجر {إلى} بدل الحرف المطلوب له وهو {على} إشارة أن إنزال الكتاب لم يكن محمولا إلى النبي حملا، جملة واحدة، وإنما أوحى إليه وحيا، آية آية، أو آيات آيات.
وقد جاء قوله تعالى: {طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى} كما جاء الفعل في آيات أخرى، متعديا بإلى وبعلى، وذلك ليجمع بين نزول القرآن مفرقا، وبين الجهة العالية التي نزل منها.
وفى قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزل إلى النبيّ، هو كذلك نزّل إلى الناس.. فهم شركاء للنبىّ في هذا الكتاب، ومطلوب من كل إنسان أن يحسب أن هذا الكتاب هو كتابه المنزل عليه.. يفقهه، ويعمل به، ويدعو الناس إلى العمل به، مقتفيا في هذا أثر النبيّ، مشاركا في حمل الرسالة معه، في حال حياته، أو من بعد وفاته..!
وفى مخاطبة النبيّ بقوله تعالى: {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} ومخاطبة الناس بقوله سبحانه: {نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} تفرقة من وجهين:
الأول: أن النبيّ الكريم خوطب خطابا مباشرا من الحقّ سبحانه وتعالى: {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ} على حين أن الناس خوطبوا بفعل لم يذكر فاعله هكذا {نزّل إليهم}، لأن التنزيل لم يكن مباشرا لهم، بل كان بوساطة النبيّ، الذي تلقّاه بدوره عن طريق الملك.
الثاني: أن الفعل {أنزل} يفيد الجمع، على حين أن الفعل نزّل، يفيد {التفرّق}، وهذا هو ما يشير إليه الحال من أمر القرآن بين النبيّ والذين تلقوه منه.. فالنبى بالنسبة لهم هو المصدر الأول الذي تجيئهم منه آيات اللّه وكلماته.. وهم يتلقونها منه آية آية، أو آيات آيات، فناسب أن يخاطب النبي في مواجهتهم بقوله تعالى: {أَنْزَلْنا إِلَيْكَ}.
وأن يخاطبوا هم بقوله تعالى: {نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ}.
هو تهديد لهؤلاء الذين يكذّبون رسول اللّه من المشركين، ويمكرون السيئات، أي يدبّرون الأعمال السيئة، ويرسمون خططها.. فالمكر هو إعمال الرأى والحيلة في الأمور.. ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو سيئ.. وهؤلاء إنّما مكرهم من النوع السيّء الذي يبعدهم عن الخير، ويعرضهم للهلاك، والبوار. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} فهل أمن هؤلاء الذين يدبّرون السوء، ويبيتون الشرّ والعدوان أن يخسف اللّه بهم الأرض، كما خسفها بالظالمين من قبلهم، أو يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، كما أنى أمما وأقواما، مكروا بآيات اللّه وكذبوا رسله؟: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ} [99: الأعراف].
وقوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} هو بيان لبعض الأحوال التي يقع فيها عذاب اللّه بأهل السوء والشقاق.. فهم إمّا أن يؤخذوا على حين غفلة.. وإما أن يلقاهم العذاب وهم في يقظة، حيث يتقلبون في وجوه الأرض.. أو يحلّ بهم البلاء وهم {على تخوف} أي على توقع للبلاء، بين يدى إرهاصات، تهدّد به وتنذر بوقوعه.. إن عذاب اللّه يقع حيث يشاء اللّه، ومتى يشاء.. وما هو من الظالمين ببعيد.
وفى قوله تعالى: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} إشارة إلى اللّه سبحانه وتعالى من فضل على هذه الأمة، إذ عافاها مما ابتلى به الأمم السابقة، حين عجّل لها العذاب.. أما هذه الأمة، فقد أفسح للّه سبحانه وتعالى للفجّار من أهلها في الأجل، حتى تكون لهم إلى اللّه رجعة، حين يطول وقوفهم مع رسوله الكريم، وبين يدى ما معه من كلمات ربّه.. وفى هذا مزيد فصل من اللّه سبحانه على نبيّه، إذ لم يفجعه في قومه، ولم يهلكهم بسبب خلافهم عليه، ومكرهم السيّء به.. {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ}.
فهل يلقى هؤلاء المشركون المعاندون رأفة ربّهم بهم ورحمته لهم، بالإقبال عليه، ومصافاة رسوله وموادّته؟
ذلك ما كان يجب أن يكون!
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ}.
تفيأ الظلّ: تنقل من جهة إلى أخرى.. والداخر: الصاغر، المستكين.
وفى الآية الكريمة وعيد للمشركين، واتهام لعقولهم الضالّة المظلمة، التي أخرجتهم عن نظام الموجود كلّه، فكانوا نغما نشازا، لا يتناغم مع لحن الموجودات، المسبّحة بحمد اللّه ربّ العالمين.
وقد أراهم اللّه سبحانه في هذه الآية الكريمة صورة محسوسة لهذا الوجود وقد سجد فيه كل موجود، ولاء اللّه، وخشوعا لجلاله وعظمته.
فما خلق اللّه من شيء يرونه، في عالم الجماد، أو النبات، أو الحيوان، إلّا كان له ظل، يتبعه، ساجدا على الأرض، سجود العابدين الخاشعين.. في ذلة وانكسار للّه الواحد القهار.
وفى قوله تعالى: {ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} إشارة إلى تلك الأشياء المحسوسة، التي يحدّث جسمها عنها، وينبئ عن وجودها، فهى ليست من عالم المعقولات، ولهذا كان لها ظلّ، لما فيها من كثافة.
وفى قوله تعالى: {يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ} خروج على مألوف النظم، وهو إما أن يجيء هكذا: {يتفيّأ ظلّه} أو هكذا: {تتفيأ ظلاله} بمعنى أنه إذا أفرد الفاعل جاء الفعل مذكرا، وإذا جمع الفاعل، جاء الفعل مؤنثا.. ولكنه في النظم القرآنى، جمع بين الأمرين.. فجاء بالفعل مذكرا وبالفاعل جمعا.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، إذ دلّ بهذا على أن الفاعل، وهو {الظل} هو مفرد في أصله.. هو شيء واحد، ولكنه في أفعاله، وحركاته، بين القبض والبسط، والتحرك من يمين إلى شمال، يكون ظلالا، لا ظلا واحدا.. فهو جمع في واحد، وواحد في جمع!! وهذا بيان لا يكون إلا في كلمات اللّه، وفى كتابه المبين.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} هو استكمال لما قررته الآية السابقة من سجود ظلال الأشياء للّه، وأنها ليست وحدها هي التي تسجد للّه سبحانه، بل كل ما في السموات وما في الأرض.. من كل دابة تدبّ على الأرض.. ومن الملائكة في السموات يسجدون للّه، وهم لا يستكبرون.. يقول اللّه تبارك وتعالى في آية أخرى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} [15: الرعد].
وخصّت الدوابّ بالذّكر، لأنّها من مخلوقات الأرض، ذات الحسّ والحركة، وهى دون الإنسان منزلة.. وخصّت الملائكة بالذكر كذلك، لأنها من عالم السموات، وهى أشرف مخلوقاتها.
وفى هذا قطع لكل حجة للإنسان ألا يكون في الساجدين للّه.. فإذا عدّ نفسه من عالم الأرض، فهذه دوابّ اللّه كلّها تسجد للّه.. فليسجد معها.. وإذا كان يرى أنّه فوق هذه الدواب، فهذه مخلوقات السماء، وهذه الملائكة أشرف مخلوقاتها وأكرمها عند اللّه، قد سجدت للّه في ولاء وخشوع.. فليسجد للّه كما سجدت الملائكة، أو كما سجدت الدوابّ! وقوله تعالى: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} هو وصف للملائكة الذين دأبهم العبادة، وشأنهم السجود للّه.. فهم- مع منزلتهم عند اللّه- يخافون ربّهم الذي علا بسلطانه على كل سلطان {وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ} به، من اللّه، في غير تردد أو تكرّه.. إذ هم أعرف بما للّه في خلقه، وما على الخلق من واجب الطاعة والولاء للخالق.